صندوق النقد الدولى: السياسات المالية الميسرة تحد أمام البنوك المركزية
قال صندوق النقد الدولى إن السياسات المالية الميسرة فى أماكن كثيرة حول العام باتت تمثل تحديًا أمام البنوك المركزية التى تشدد سياستها النقدية لمواجهة التضخم.
وقال توبياس أدريان المستشار المالي ومدير إدارة الأسواق النقدية والرأسمالية في صندوق النقد الدولى، وكريستوفر إيرسينج نائب لمدير إدارة الأسواق النقدية والرأسمالية في الصندوق، وفابيو ناتالوتشى نائب مدير إدارة الأسواق النقدية والرأسمالية، إن البنوك المركزية رفعت أسعار الفائدة بصورة حادة العام الماضى حيث ارتفع التضخم فى كثير من البلدان إلى أعلى المستويات منذ عقود. والآن، يؤدى تراجع أسعار الطاقة إلى تخفيض التضخم الكلى وإثارة التفاؤل بشأن إمكانية تيسير السياسة النقدية فى وقت لاحق من هذا العام.
بعد عدة سنوات من التضخم المنخفض، كانت طفرة التضخم أثناء التعافى من الجائحة بمثابة مفاجأة. وتضمن العوامل الأساسية الدافعة للتضخم اضطرابات سلاسل الإمداد، وارتفاع أسعار الطاقة عقب الغزو الروسى لأوكرانيا، والتحفيز النقدى والمالى الهائل الذى استحث الإنفاق على المساكن والسلع المعمرة. وتجاوز التضخم 6% فى أكثر من أربعة أخماس اقتصادات العالم، بينما أدت زيادات الأسعار واسعة النطاق إلى رفع التوقعات بشأن زيادات أخرى إلى مستويات مرتفعة قياسا على عدة عقود سابقة.
واستجابت البنوك المركزية فى الأسواق الصاعدة بتشديد حاد السياسة للسياسة النقدية بدءاً من عام 2021، وحذت حذوها البنوك المركزية النظيرة فى الاقتصادات المتقدمة. وأدى هذا إلى تشديد الأوضاع المالية على مستوى العالم حتى نهاية خريف العام الماضى. ونتيجة لذلك، يُتوقع الآن أن يتباطأ النمو الاقتصادى العالمى هذا العام، مع تباين الآراء بشأن مدى أرجحية أن يتطلب الأمر ارتفاع البطالة لتهدئة أسواق العمل الساخنة.
غير أنه منذ نهاية العام الماضى، سجلت الأسواق المالية انتعاشا قويا على أثر تراجع أسعار الطاقة ودلائل تشير إلى احتمال وصول التضخم إلى مستوى الذروة. وفى بعض الاقتصادات، هبطت أسعار السلع المدرجة فى مقاييس التضخم الأساسى، مثل السيارات والأثاث.
هذه الدلائل على التقدم فى تخفيض ضغوط التضخم فى ظل استمرار قوة الطلب فى أسواق العمل كانت سببا للاعتقاد بأن صناع السياسات ربما يكونون قد نجحوا فى ترويض التضخم بتكلفة بسيطة على النمو الاقتصادى، وهو ما يسمى بالهبوط الاقتصادى الهادئ.
وفى الولايات المتحدة ومنطقة اليورو، عادت مقاييس التضخم القائمة على السوق لعام قادم إلى مستوى قريب من هدف البنوك المركزية البالغ 2% بعد أن سجلت 6% فى الربيع الماضى. وشهدت المقاييس انخفاضات مماثلة بالنسبة لعدة اقتصادات متقدمة أخرى. وفى الاقتصادات الصاعدة، تراجعت أيضا هذه المقاييس القائمة على السوق لعام قادم، وإن كان بوتيرة أبطأ.
واقترنت هذه الانخفاضات المأمولة فى معدل التضخم بتزايد التوقعات بأن البنوك المركزية لن تتوقف فقط عن تشديد السياسة النقدية قريبا، إنما ستقوم أيضا بتخفيض أسعار الفائدة بسرعة نسبية. وفى كثير من الاقتصادات، أسفر هذا عن تراجع العائد على سندات الدين الحكومى طويل الأجل إلى أقل من عائد السندات الأقصر أجلا.
وغالبا ما يكون هذا الانعكاس فى منحنى العائد سابقا على فترات الركود، كما توضح السوابق التاريخية. والواقع أن تقييمات المحللين تشير إلى مخاطر ركود كبيرة فى كثير من الاقتصادات، غير أن المتوقع هو أن حالات الركود، إذا وقعت، ستكون معتدلة.
فمن ناحية، تصدر الأسواق المالية إشارة لاحتمال تراجع التضخم دون زيادات ملموسة فى البطالة. ويمكن أن يعتنق صناع السياسات هذه الرؤية، والمصادقة فعليا على تيسير الأوضاع المالية. ويرى هذا الرأى كثير من المراقبين الذين يشعرون بالقلق من أن تُبالغ البنوك المركزية فى حماسها لتشديد السياسة النقدية – وتتسبب فى هبوط اقتصادى مؤلم بلا داع.
وبدلا من ذلك، يمكن للبنوك المركزية رفض تفاؤل المستثمرين، مؤكدة على المخاطر التى تهدد باستمرار الضغوط التضخمية لفترة أطول من المتوقع. ويتطلب منهج إدارة المخاطر هذا فرض أسعار فائدة تقييدية لفترة أطول، إلى أن تظهر أدلة ملموسة على انخفاض التضخم بشكل مستمر.
وبينما يمكن أن يؤدى ذلك إلى إعادة تسعير مسار السياسة والأصول الخطرة فى الأسواق المالية – مما يمكن أن يتسبب فى هبوط أسعار الأسهم واتساع فروق العائد على السندات مقارنةً بالسندات القياسية – فإن هناك ثلاثة أسباب تقوم عليها الحاجة إلى هذا المنهج من أجل ضمان استقرار الأسعار. الأول أن التاريخ يوضح أن التضخم المرتفع غالبا ما يكون متشبثا بالارتفاع – وقد يواصل مساره الصاعد دون توقف – ما لم تُتَّخذ إجراءات قوية وحاسمة على صعيد السياسة النقدية لتخفيضه.
والثانى هو أنه رغم أن تضخم السلع قد تراجع، فإنه يبدو من غير المرجح حدوث الشيء نفسه مع الخدمات دون أن تهدأ سوق العمل بدرجة ملموسة. ومن الضرورى أن تتجنب البنوك المركزية الخطأ فى قراءة الانخفاضات الحادة فى أسعار السلع والقيام بتيسير السياسة قبل حدوث تراجع ملحوظ فى تضخم الخدمات وفى الأجور، اللذين يتعدلان ببطء أكبر.
والثالث يتمثل فى أن التجربة تشير إلى أن الفترات الممتدة من الارتفاع السعرى السريع تجعل توقعات التضخم أكثر عرضة للانفلات عن المستوى المستهدف حيث يزداد رسوخ هذه الحالة الذهنية الداعمة للتضخم فى سلوك الأسر والشركات.
وقال خبراء الصندوق إنه ينبغى للبنوك المركزية أن تفصح عن الحاجة المرجحة للحفاظ على أسعار فائدة أعلى لفترة أطول إلى أن تظهر أدلة على عودة التضخم بما فى ذلك الأجور وأسعار الخدمات إلى المستوى المستهدف بصورة مستدامة.
ومن المرجح أن يواجه صناع السياسات ضغوطا لتيسير السياسة النقدية مع ارتفاع البطالة واستمرار هبوط التضخم. ويمكن أن تكون هذه التحديات بالغة الحدة فى حالة اقتصادات الأسواق الصاعدة.
ولا شك أن هذه فترة غير عادية يتأثر فيها التضخم بالعديد من العوامل الخاصة، ومن الممكن أن ينخفض التضخم بأسرع مما يتصوره صناع السياسات. غير أن التيسير السابق لأوانه يمكن أن يتسبب فى عودة التضخم الحاد بمجرد تعافى النشاط، مما يترك البلدان عرضة لمزيد من الصدمات التى يمكن أن تُخْرِج التوقعات التضخمية عن نطاقها المستهدف. ومن ثم، فمن الضرورى أن يظل صناع السياسات مثابرين على الدرب وأن يركزوا على إعادة التضخم إلى مستواه المستهدف دون إبطاء.