عطا عيد عبد الرحيم
مقال من أرشيف المجلة - عدد يوليو 2020
الوساطة خصمان رابحان
تذهب معظم الأنظمة القانونية فى العالم إلى منح الحق الأصيل للدولة فى حسم النزاعات عن طريق مرفق القضاء، الذى يمثل أحد أهم مظاهر سيادة الدولة.
إلا أن التطور السريع الذى نشاهده فى مختلف نواحى الحياة من خلال الوسائل التكنولوجیة إضافة إلى رقمنة وإتساع الرقعة الاقتصادیة وزوال محددات التجارة الدولية بين الدول وإزدياد حجم المبادلات التجاریة وشیوع التجارة الإلكترونیة، فضلًا عن تزايد أحجام الاستثمارات سواءًا محليًا أو أجنبيًا، قد أدى بلا شك إلى مزيدًا من التشابك فى العلاقات الاقتصادية نتج عنه تطور كمى ونوعى فى النزاعات التى أصبحت اكثر تعقيدًا وغموضًا إضافة إلى ظهور خلافات نوعية مستحدثة.
الأمر الذى ولد مطلبًا ملحًا للتفكير بتيسير إجراءات التقاضى فى المحاكم من ناحية، ومن ناحية أخرى تطوير منهجية التفكير فى حل النزاعات وذلك من خلال إيجاد آليات بعيدة عن ساحات المحاكم لفض تلك المنازعات وتسويتها لا سيما الاقتصادية منها بصورة ودية تعتمد على التوافق والتراضى بعيدًا عن الحزم والإجبار دون أن يكون هناك فائز أو خاسر - مخطئ أو مصيب لا سيما إذا راعت تلك الآليات بشكل أساسى السرعة المطلوبة لتسوية تلك النزاعات.
ومن هنا كانت آلية الوساطة أحد أهم الآليات البدیلة لتسوية وحسم المنازعات، حيث أصبح اللجوء إلى هذه الآليات فى وقتنا الحالى أمرًا حتميًا لابد منه فى أغلب النزاعات الاقتصادية.
وقد أدى ازدياد لجوء المتنازعين عالميًا وعربيًا إلى هذه الآلية فى الفترة الأخيرة إلى عدم جواز تسميتها بـ«البديلة». ذلك أن كثرة اللجوء إليها أدت إلى تحولها فى كثير من الأحيان إلى آلية أصيلة يلجأ لها الأطراف إبتدءًا، وذلك بغرض الإستفادة من مزاياها فى سرعة تسوية النزاعات والحفاظ على السرية التامة، وإنخفاض تكلفة اللجوء إليها، فضلًا عن مرونة إجراءات تطبيقها.
إن الوساطة هى أحد الآليات الفاعلة لفض النزاعات بعيدًا عن ساحات وإجراءات التقاضى وذلك من خلال إجراءات سرية تكفل الخصوصية بين أطراف النزاع وتقوم على محاولة تقريب وجهات النظر بين الآطراف النزاع من خلال استخدام وسائل وفنون مستحدثة فى المفاوضات بغية الوصول إلى تسوية ودية مرضية للجميع.
إن آلية الوساطة هى مظهر من مظاهر العدالة قديم جدًا وهو أقدم من عدالة الدولة، حيث كانت الوساطة تتم فى السابق بشكل بسيط قائم على إصلاح ذات البين ونابعة من العادات والتقاليد السائدة فى المجتمع.
وتتخذ الوساطة أشكالًا عديدة فهناك الوساطة البسيطة وهى التى تقترب من نظام التوفيق فى وجود شخص يسعى إلى التقريب بين وجهات نطر المتنازعين، وهناك الوساطة تحت شكل قضاء ظاهرى وهى التى يتم فيها تشكيل هيئة يرأسها الوسيط تضم وكلاء عن أطراف النزاع وذلك بغرض الوصول إلى تسوية النزاع بحل مقبول من الطرفين، وهناك الوساطة الاستشارية وهى التى يطلب فيها أطراف النزاع من خبير استشارته أولًا فى موضوع النزاع ثم يطلبون منه بعد ذلك تدخله كوسيط لحل النزاع، وهناك وساطة التحكيم وهى التى يتفق فيها الأطراف على قيام الوسيط بمهمة التحكيم إذا فشلت مهمته فى الوساطـة، وهناك أخيرا الوساطة القضائية حيث تقوم المحاكم قبل الفصل فى النزاع بعرض اقتراح على الأطراف باللجوء بداية إلى الوساطة.
وهو المطبق حاليا بجمهورية مصر العربية حيث يمكن لأطراف النزاع المنظور بالمحاكم الاقتصادية المصرية اللجوء بداية إلى آلية الوساطة، فإن تم التوصل للتسوية المقبولة من الطراف تم تصديق إتفاق التسوية بالصيغة التنفيذية، وإن لم يتم فإن السبيل هو الإستمرار فى آليات التقاضى التقليدية.
كما أن وزارة العدل قامت بإعداد مشروع قانون مستقل ومتكامل للوساطة لتسوية المنازعات المدنية والتجارية وقد وافقت لجنة الشؤون الدستورية والتشريعية بمجلس النواب فى 12/2019، على مشروع القانون بإصدار قانون تنظيم إجراءات الوساطة، وذلك كآلية جديدة لتسوية النزاعات المدنية والتجارية بديلًا عن التقاضى وبعيدًا عن ساحات المحاكم.
ويستهدف القانون حل أزمة تكدس دعاوى النزاعات المدنية والتجارية أمام القضاء من خلال إيجاد حلول بديلة للتقاضى يمكنها تسوية أغلب تلك النزاعات قبل وصولها للمحاكم، وقد نظم مشروع القانون إجراءاتها تسوية النزاعات المدنية والتجارية، عدا المنازعات التى تختص المحاكم الاقتصادية بها وذلك نظرا لأن قانون المحاكم الاقتصادية يتضمن إجراءات وساطة.
حيث أجاز القانون اللجوء إلى الوساطة لتسوية المنازعات التى قد تنشأ عن علاقة قانونية (عقدية أو غير عقدية) بموجب اتفاق الأطراف كتابة على ذلك، وسمح بإجراء الوساطة سواء كانت سابقًا على قيام النزاع أو بعده، حيث أجاز أن يتم اتفاق الوساطة بعد قيام النزاع ولو كانت قد أقيمت فى شأنه دعوى أمام القضاء.