عدوي مالية
مدحت نافع: توطين الصناعة المصرية أصبح إجباريا وليس اختياريا
ايمان عريف
مستشار وزير التموين والرئيس السابق للشركة القابضة للصناعات: التكامل العربي ..أو الموت
مصر تتعرض لـ« العدوي المالية» بسبب الأحداث الجارية
تعظيم الصناعة المحلية وتوفير المواد الخام والوسيطة داخليا من التجمعات الإقليمية
رفع أسعار الفائدة وتحريك سعر الصرف قرارات صائبة .. لكن اختلف فى التوقيت
تبكير زيادة المرتبات والمعاشات يمكن الطبقات الأكثر من استيعاب الصدمات التضخمية
الاكتفاء الذاتي من الحبوب قاطرة التكامل العربي الاقتصادي
ضرورة وضع قيود استيرادية لمنع الإغراق من الاستيراد
إنشاء صندوق لدعم الصناعة الوطنية..وتفضيل المنتج المحلي وزيادة التكوين المحلي في الصناعة
ارتفاع تكلفة النقل والمواد الخام والوسيط في الإنتاج ..تكاليف إضافية علي السلعة
تغييرات عالمية كبيرة من كورونا إلى الحرب الروسية الأوكرانية أدت إلى موجات تضخم عالمية، وتقف سلاسل الإمداد، ونقص فى السلع الأساسية العالمية، تأثرت بها كافة الدول عالميا.. أزمات متلاحقة وقرارات اقتصادية سريعة لاحتواء الأزمات، رفع أسعار الفائدة وتحريك أسعار الصرف .. كلها أحداث سريعة، وفى القلب منها مصر، لذا حاورنا الدكتور مدحت نافع، مستشار وزير التموين والرئيس السابق للشركة القابضة للصناعات، لفهم الأحداث العالمية وتأثيرها على مصر.
موجات من التضخم يشهدها العالم وتعطل سلاسل الإمداد والحرب الروسية الأوكرانية .. كلها مشاهد مقلقة على المستوي الاقتصادي .. هل يمكن أن تتأثر مصر بها؟
هناك أكثر من قناة من قنوات «العدوي المالية» التي يمكن أن تتعرض لها مصر، و«العدوي المالية» تعبير علمي واقتصادي، ومن ضمن هذه القنوات التي تتأثر بها مصر سريعا، ارتفاع أسعار المواد الخام، الذي يحدث في سلاسل الإمداد العالمية، وأسبابها الرئيسية معلومة، الأولي جائحة كورونا، والممتدة بحسب الدراسات حتي 2035، والثانية، الحدث الطارئ والذي تسببت في خلل اقتصادي في العالم كله، وهو الحرب الروسية الأوكرانية، والتي أسفرت عن عقوبات متبادلة بين المعسكر الغربي وروسيا من ناحية، ونتيجة انقطاع الإمدادات والإضراب في البحر الأسود، أثرت بالسلب عليها، واتخاذ قرارات احترازية بزيادة المخزون لكل دول العالم، وليس فقط الدول التي تواجه بشكل رئيسي، بل كل دول العالم اتخذت نفس الحيطة.
فانخفاض الاستيراد من روسيا وأوكرانيا بشكل مباشر، والذي ذكرناه، جعلت دول كبري تتخذ قرارات تقييد الصادرات من المواد الخام، وخاصة المواد الغذائية، بهدف زيادة حجم الاحتياط الاستراتيجي لكل دولة، كل هذا سيرتد شرقا إلي مصر ودول كثيرة جدا، التي تعمد علي الاستيراد لسد الفجوة الغذائية والمواد الخام وغيرها، وهذه قناة ثرية جدا لـ « العدوي المالية» التي ذكرتها.
وهل هناك قنوات أخري لـ« العدوي المالية» يمكن أن تتأثر بها مصر؟
توجد قناة أخري تأتي في مرحلة ثانية، والتي تأتي بعد التضخم بسبب الموجات التضخمية التي يشهدها العالم الآن بشكل غير مسبوق، ففي أمريكا على سبيل المثال وصل بها التضخم إلى 7.9% خلال فبراير الماضي في أسعار المستهلكين، فى ارتفاع غير مسبوق للتضخم لم تشهده الولايات المتحدة الأمريكية من قبل، وكذلك فى الاتحاد الأوروبي اقترب التضخم من 6% وهكذا.. هذه الدول كلها اتخذت وستتخذ خلال الفترة المقبلة، قرارات بتحريك سعر الفائدة لأعلي، ويخشي منه تكرار أزمات كثيرة جدا مثل الذي حدثت في 2013، وتضررت منها الدول النامية بصفة خاصة.
وهل سيؤثر رفع الفائدة فى الدول الغربية على مصر بشكل مباشر؟
بالطبع.. فهذه قناة ثالثة لـ « العدوي المالية» تأتي إلي مصر عبر الدين الخارجي، فستزيد تكلفته، أيضا تكلفة الدين الداخلي، فهي محفظة ديون واحدة، وقرار رفع الفائدة في مصر قرار صائب، وإلا كان سيتعرض الجنيه المصري لضرر شديد جدا، فهناك دول كثيرة حركت سعر الفائدة، ومنها دول الخليج بالكامل، والواقع أن المحرك الرئيسي في العالم هو الدولار الأمريكي، الاستيراد بالدولار، والقروض بالدولار، وسائر الدول معاملاتها بالدولار، وأمريكا تتحكم في معظم شركات البترول بالشرق الأوسط وتتعامل بالدولار.
مصر فى الفترة الأخيرة حركت سعر الصرف ورفعت أسعار الفائدة..كيف تري هذه الخطوة؟
هذه القرارات صائبة ومتسقة، مع اختلافي في التوقيت، وكنت أفضل أن تكون زيادات سعر الفائدة بالشهادات أو سعر الفائدة الأساسي أن تأتي قبل عملية تحريك سعر الصرف، بفترة كافية لتخفيف الصدمة التي تعرض لها الجنيه المصري، وهو ما شاهدناه من إقبال الناس علي شهادة البنك الأهلي المصري وبنك مصر بفائدة 18% كان خف الأمر علي الدولار، ولو كان تأخر التحريك يومين بعد الفائدة فكان الأمر أفضل، ولكن القرار المالي الجيد هو الصرف من احتياطي الموازنة القادمة 130 مليار جنيه، استباقا لقرارات يوليه لزيادة المعاشات، وهو من شأنه أن يعوض الطبقات الأكثر ضررا بشئ من استيعاب بعض الصدمات التضخمية.
فالزيادة الفعلية فى سعر الفائدة كانت أكثر من 1% التي أعلن عنها، ومنها منتج الشهادة صاحبة 18% والتي حصدت أكثر من 100 مليار جنيه خلال 48 ساعة، وهناك عدد كبير من المصريين الذين حولوا الدولار واليورو إلي الجنيه للاستفادة من التحريك، وهو دليل علي صحة القرار.
وبدون هذا القرار سيكون هناك زيادة في الدين العام، والموازنة، بالإضافة إلي أنه سيضغط علي الموازنة العامة بالدولة بشكل كبير، خاصة بعد أن اقترب الدين من 40% من المصروفات في آخر موازنة، وهي نسبة كبيرة.
لكن.. كيف يمكن لمصر أن تواجه كل هذه التحديات؟
هناك أكثر من طريقة، منها توطين الصناعة الذي أصبح إجباريا وليس اختياريا خلال هذه المرحلة، خاصة أن كل ما يحدث في العالم من تداعيات العولمة، والعولمة لها جانب مظلم، وهو أن أي شئ يضر جانب من العالم، يتداعي له سائر الأرض، وشاهدنا هذا في سلاسل الإمداد في صناعة السيارات علي سبيل المثال وليس الحصر، وتأثرها الشديد عندما تم استخدام الرقائق والموصلات في صناعة أجهزة التنفس الصناعي، بنسبة ضخمة، كل صناعة السيارات في العالم تضررت ونشط بكثرة سوق بيع السيارات المستعملة في الولايات المتحدة الأمريكية، تجاوز 45% خلال من بداية جائحة كورونا، وتعد هذه النسبة ضخمة جدا وهو نتيجة انخفاض صناعة السيارات الجديدة للسبب الذي ذكرته.
نعود للوضع العالمي الآن.. وتأثيره علي مصر.. هذه المنظومة التي أصبحت بها اعتماد متبادل بشكل كبير جدا، لذلك لابد من تعظيم الصناعة المحلية، والاعتماد عليها بشكل كبير وتوفير المواد الخام والوسيطة بقدر المستطاع داخليا وأيضا من التجمعات الإقليمية الموثوقة، وهذه التجمعات أيضا تعد أقل خطورة من الاعتماد علي أقاليم متباعدة لا يوجد بيننا وبينهم مصالح مشتركة قوية.
كل هذه الأحداث السريعة في العالم، تجعلنا نعود وبقوة علي فلسفة التكامل العربي العربي، وهو أمر ملح جدا.
نتحدث عن التكامل العربي العربي منذ سنوات .. فها تري أن الوقت حان لتحقيقه؟
التكامل العربي أمر حتمي.. وإما أن تتكامل أو تموت، وببساطة هل هذه الدول تعتمد من الدخل النفطي أن توفر الغذاء؟ ليس من الضرورة أن تمتلك المال أن توفر احتياجاتك، لذلك لابد أن تزرع وتصنع لتوفير احتياجاتك الرئيسية.
وحرب أوكرانيا وروسيا كشفت للعالم سيطرة هذه الدول علي القمح والذرة وعباد الشمس الذي يستخلص منه الزيوت، مصر مثلا تستورد من روسيا وأوكرانيا حسب آخر إحصائية 80% من إجمالي استيرادنا من القمح العالم الماضي من احتياجاتنا، فقط والاكتفاء الذاتي للقمح في مصر يمثل 50% فقط، ومضطرين لاستيراد 50% لاستكمال وسد فجوة المواطنين.
لابد من تنويع مصادر الاستيراد، ولكن سيظل لدينا مشكلة أخري، أن الدول الأخرى نتيجة نقص المعروض ستضطر لتخزين احتياطاتها وتقلل التصدير، وهو ما سيتسبب في ارتفاع الأسعار بشكل كبير، فإن لم تستطيع أن توفر الاكتفاء الذاتي، أولا محليا ثم إقليميا بقدر المستطاع مثلا الاستفادة من الزراعة التعاقدية خارج مصر، وليكن في السودان مثلا الأقرب والأكثر خصوبة، وموفرة في تكلفة النقل وخلافة ويكون التمويل مثلا خليجي وهذا هو التكامل، أن يكون مصدر التمويل خليجي والخبرة والأيدي العاملة من مصر، الأرض السودان.. وهكذا.
التكامل هنا يأتي من مشروع القاطرة.. وعلي سبيل المثال بداية الاتحاد الأوروبي فكرته جاءت باتحاد الصلب.
والآن لو استخدمت التكامل في توفير السلع الغذائية بالتكامل العربي العربي.. مع تنفيذ مشروع واحد فقط وليكن الاكتفاء الذاتي من الحبوب يكون هو مشروع القاطرة، والذي يأتي منه التمويل الخليجي مع الخبرات المصرية مع استخدام الأراضي الزراعية الخصبة بالسودان، وغيرها الدول التي لديها خصوبة مثل الجزائر.. هذه المنظومة يمكن أن تثمر مشروعا تكامليا يحتذي به في مشروعات أخري متنوعة لتكون قاطرة التكامل العربي الاقتصادي، ولابد أن يكون مشترط بالمصالح المشتركة، والفجوة تكون ليس بعيدة.. بعيدا عن الدول التي لها مصالح معادية أو أجندات خاصة.
مصر لديها نقص كبير في الموارد لابد أن نعترف به، وكما ذكرت لابد من الاعتماد علي مشروع إقليمي للمساندة في المواقف المماثلة، وبالفعل الأزمات العالمية أصبحت متكررة جدا.
فمصر موقعها يميزها بأنها يمكن أن تتحول لمنطقة لوجيستية للإقليم بالكامل، وكما ذكرت قاطرة التكامل يبدأ بمشروع، وقناة السويس وغيرها من المشروعات، والوحدة يجب أن تكون أساسها المصالح المتبادلة، وليس الإخاء والوطنية والوحدة بالشعارات، يجب ان تكون أساسها مبني علي المصالح المشتركة للجميع.
قدرة الدول العربية كبيرة جدا علي التكامل بشكل علمي وليس عاطفي، والتنوع في المناخ بين الـ 22 دولة كبير جدا في المساحات أو التقارب، تنوع في عناصر القوة والإنتاج سواء في العمالة أو التنظيم أو الأرض أو الموارد أو رأس المال الجميع مكمل بعضة، هذا التنوع يخلق فرص كبيرة للتكامل.
ولماذا ترتفع الأسعار يشكل جنونى فى الأسواق؟
أسباب الارتفاع الشديد في الأسعار مزدوجة ومتعددة، أهمهم هو أثر الأساس، أننا بدأنا في النهوض بعد أزمة كورونا 2020 وتشغيل مصانع عديدة بعد توقفها، وبالتبعية الطلب علي مدخلات الصناعة والمواد الخام تزايد لإعادة التشغيل، وهو ما تسبب في زيادة كبيرة في أسعار الطاقة، الضغط الآخر كان في المراكز المكشوفة في بعض المنتجات، منها القمح.. عقود القمح كان البيع علي المكشوف، قبل أزمة روسيا، ولابد من غلق هذه المراكز المكشوفة.
كما أن غلق الموانئ والموانئ الملاحية، وغيرها ضاعفت تكلفة النقل، والمواد الخام والوسيط في الإنتاج.. كلها تكاليف إضافية علي السلعة أو المنتج الذي يصل للمستهلك النهائي.
مالم تصل هذه الأزمة لحلول الخاصة بحرب روسيا وأوكرانيا، ومن وجهة الحل في أيدي الصين، وهي الأمل الوحيد لروسيا لكي تنجو من العقوبات الدولية، وفي حالة امتناع الصين عن الشريك الروسي، اعتقد من الممكن أن تنهي سريعا هذه الأزمة التي أثرت علي العالم.
بعد اسكتشافات الغاز في مصر .. والوصول للاكتفاء الذاتي.. كيف تقلل مصر من الخسائر التي تلحق بها وبدول العالم؟
الحروب ضرر يلحق العالم كله وليس الدول الأطراف في الحرب فقط، ولكن هناك سبل لتقليل الضرر الذي يقع علينا، ومنها كما ذكرت العمل علي الوصول للاكتفاء الذاتي من السلع الأساسية، تعميق الصناعة مع توفير حوافز حقيقية للصناعة، والاتفاقيات التجارية كلها تسمح بدعم الصناعة الوطنية، والتشريعات والقوانين المصرية كلها تسمح بدعم الصناعة الوطنية بأشكال مختلفة، من ضمنها وضع بعض أنواع القيود علي الاستيراد، كذلك إنشاء صناديق والتشريعات موجودة من أيام الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، وهي أقدم من اتفاقيات التجارة، وهي ميزة أن القوانين موجودة بالفعل ولا يستطيع أحد أن يعترض عليها، والتي يسمح بها علي بعض الصناعات.
كذلك لابد من وضع قيود استيرادية، لمنع الإغراق من الاستيراد مهمة جدا، بالإضافة إلي قيود حماية لفترة مؤقتة، وهناك أنواع أخري من القيود خاصة بالصناعات الناشئة، بالإضافة إلي عمل صندوق لدعم الصناعة الوطنية، وهو شكل من أشكال الدعم، مع تفضيل المنتج المحلي وزيادة التكوين المحلي في الصناعة، ليكون النسبة الأكبر في أي صناعة أن تكون محلية طالما جودتها جيدة، حتي لو كان في البداية وعلي المدي القصير يأتي علي حساب الجودة و التكلفة ثم يتحسن، لابد أن نشجعه، لأنه علي المدي الطويل يضمن الاستدامة.