دكتور مدحت نافع
عن عقود الإجارة
منذ أيام تلقّفت الصحف المصرية بياناً للسيد القائم بأعمال رئيس الهيئة العامة للرقابة المالية مفاده أن الهيئة تعفي راغبي التعامل بعقود "الإجارة" من سداد المقدم للعقارات، وذلك بغرض تنشيط سوق التمويل العقاري في مصر، بعدما تلاحظ للهيئة أن هذا الإعفاء من شأنه بعث تلك السوق من ثباتها. بيان الرقابة المالية يأتي في سياق التخلّص من القيد التمويلي الذي لا يسمح بتجاوز التمويل نسبة 90% من قيمة الوحدة العقارية المشتراة، مما كان يلزم المشترى بسداد الفرق (10%) في صورة مقدّم يحصله البائع.
كنت عبر عدد من المقالات والمداخلات الإعلامية قد تطرقت إلى تراجع كافة الأنشطة التي تراقبها وتنظمها الهيئة على نحو ملحوظ، وذكرت منها نشاط التمويل العقاري، الذي بالكاد يتنفس بإمداد منتظم من المبادرات الرئاسية المتعددة لتحسين أداء هذا القطاع الهام.
ولمزيد من الإيضاح حول عقود الإجارة، فهي من العقود المتوافقة مع أحكام الشريعة الإسلامية التي تغني عن التمويل من خلال الرهن العقاري. وهي ببساطة تحوّل الفائدة ذات الصبغة الربوية إلى إيجار مقبول شرعاً، استناداً إلى القاعدة الشرعية العامة النابعة من قوله تعالى: "وأحل الله البيع وحرّم الربا". يؤسس عقد الإجارة على عملية نقل للوحدة العقارية إلى مؤتمن trust وليكن مصرفاً أو شركة متخصصة في مجال التمويل العقاري، وهذا المؤتمن يمتلك كامل الحقوق على الوحدة العقارية، ثم يقوم بتأجيرها (مع وعد بالبيع) إلى المستأجر الذي يسدد قيمة العقار من خلال سداده للقيمة الإيجارية بآلية مماثلة لآلية شراء السيارات بعقود التأجير التمويلي leasing.
كل ايجار يسدده المستأجر يعد بمثابة نقل لجانب من ملكية العقار من البائع إليه. بهذا المفهوم يكون عقد الإجارة أشبه بعقد رهن عقاري معكوس! إذ أن مانح القرض العقاري في حالة الرهن يحصل على عائد من تأجير النقود ذاتها (فائدة) بالإضافة إلى أقساط القرض. أما في حالة الإجارة فإن المستأجر ليس مديناً بقيمة العقار المتبقية بعد سداده عدداً من الأقساط (القيمة الإيجارية)، إذ أنه مجرد شاغل للوحدة العقارية، وهو مرتبط بعقد شراكة مع البائع الذي يتحمل وحده احتمالات الربح والخسارة، لحين نقل العين إلى المشتري الجديد.
عقد الإجارة بهذا المعنى هو عقد مستند إلى أصل asset based contract وهو شائع الاستخدام في العديد من الدول، إذ لا يتعارض مع اللوائح والقوانين في الدول الغربية والدول ذات الأغلبية المسلمة على حد سواء.
أما عن الدفعات المقدّمة الذي أعلنت هيئة الرقابة المالية عن عدم إلزام المستأجر بها كنوع من التسهيل في عقود الإجارة، فهي شائعة التحصيل في مختلف الممارسات التعاقدية لاتفاقات الإجارة، لا لسد فجوة تشريعية غير مفهومة! ولكن باعتبارها دفعات إيجارية مقدمة من المستأجر (المشتري المستقبلي) إلى البائع المؤتمن. ومن الشائع في عقود الإيجار التقليدية سداد دفعات إيجارية مقدمة كنوع من إثبات جدية التعاقد، والمحافظة على حقوق المؤجّر، وتغطية تكلفة الفرصة البديلة الضائعة من شغل المستأجر للوحدة لفترة قصيرة ...أما عن التأمين والضرائب فقد تم تضمينها في القيمة الإيجارية مسبقاً لدى الاتفاق على عقود الإجارة.
من هنا علينا أن نفهم أن الهيئة الرقابية لا تملك "إعفاء" المستأجر من سداد المقدّم في عقود اتفاقية بين طرفين. هي فقط ترفع قيداً تشريعياً معوّقاً لا يدرك الفرق بين التمويل (كإيجار للنقود) وبين الإجارة العقارية كعقد يحمل وعداً بالبيع المستقبلي، متى استكمل المستأجر سداد الأقساط الإيجارية التي تمنحه حق الملكية لكامل الوحدة محل التعاقد بنهاية الفترة، والوفاء بالقيمة المتفق عليها بين طرفي العقد.
ولكي يكون عقد الإجارة متفقاً وأحكام الشريعة الإسلامية فإن نصوصه يجب أن تتلافى الغرر وبيع الغيب ... إلى غير ذلك من بيوع محرّمة تختلف شروطها وضوابطها باختلاف المذاهب الفقهية التي يتم تحكيمها في الرقابة الشرعية على العقود. عندئذ تكون هيئات الشريعة sharia boards في دولة مثل مصر مختلفة في كثير من أحكامها وآرائها عن الإمارات أو ماليزيا مثلاً، دون أن ينتقص هذا من صفة العقد كونه متفقاً مع أحكام الشريعة كما تفهمها وتفسرها الهيئة الشرعية المعنية.
وقد كنت منذ عملي بهيئة الرقابة المالية عام 2010 كمستشار لرئيس الهيئة ومشرفاً على الإدارة العامة لتمويل الشركات، بل ومازلت إلى يومنا هذا أرى عدم تدخّل الدولة في عمل تلك اللجان الشرعية، وتركها للجهة مصدرة العقد أو نشرة الاكتتاب (حسب الأحوال) على أن تتقيد تلك الجهة بالأصول والأحكام الشرعية العامة، وعلى أن تكون الرقابة على أعمال تلك اللجان من شأن الأزهر الشريف، بحيث لا يتدخل في طبيعة وشكل العقود والاتفاقات، بقدر ما يتأكد من كونها لا تخالف أحكام الشريعة من الوجهة التي ألزمت اللجنة بها نفسها، وليس من وجهة نظر محسوبة على الدولة أو على إحدى مؤسساتها الرسمية.
التشريعات المالية يجب أن تتمتع بالمرونة لاستيعاب هذا التطور في المنتجات المالية على اختلاف أنواعها، والبيان الصادر عن القائم بأعمال رئيس الهيئة العامة للرقابة المالية بقدر ما كان مقصوده بث روح التفاؤل في القطاع العقاري وتنميته، بقدر ما كان مقلقاً لي وللمختصين الذين يرون تفاوتاً ملحوظاً بين سرعة تطور المنتجات المالية المتوافقة مع الشريعة الإسلامية وغيرها، وبين سرعة استيعاب الجهات الرقابية والتنظيمية للطبيعة الخاصة لأسواق وخصائص تلك المنتجات.
كاتب المقال..
مستشار وزير التموين والتجارة الداخلية
الرئيس السابق للشركة القابضة للصناعات المعدنية