دكتور مدحت نافع
فرص صناعية ضائعة
يهمل البعض المفهوم الواسع للصناعة، يختزلها في الصناعات التحويلية، غير مدرك أن كل نشاط اقتصادي يمكن أن يكون صناعة في ذاته. صناعة السينما، من الصناعات التي يمكن أن تساهم بشكل فعّال في تحقيق إيرادات كبيرة للاقتصاد المصري.
منذ أيام قرأت تصريحاً لأحد المخرجين المصريين الذين أتيحت لهم فرصة للاشتراك في صناعة واحد من أفلام "مارفل" الشهيرة. التصريح كان مؤلماً وكاشفاً عن عدد كبير من الفرص الضائعة التي تنساب من بين أيدينا كل يوم، دون أن نغتنمها على الوجه الصحيح. فقد صرّح الرجل بمرارة شديدة عن ضياع فرصة تصوير فيلمه المشار إليه في مصر، نتيجة لتأخر صدور "التصاريح" بالموافقة على التصوير! وأن التواصل مع صناع الفيلم من قبل المسئولين جاء بعد فوات الأوان، وبعد أن تغيرت بالفعل وجهة التصوير من مصر إلى بلد آخر.
المبلغ الذي كان من الممكن أن يدخل مصر لو تم تصوير اللقطات بها قدّره المخرج الشاب بنحو ثلاثة مليارات جنيه! لا أتكلم هنا عن مدى توافر مقومات توطين صناعة السينما المتقدمة في مصر، والتي ربما تأخر عنها رجال هذه الصناعة في بلادنا العربية، نتيجة تعقّدها ودخول التكنولوجيا الحديثة في كل تفاصيلها، وانعكاس ذلك بالطبع على تكلفة تمويل إنتاجها...إنما أتحدث فقط عن فرصة مجانية أقرب إلى السياحة منها إلى السينما، لم يوفق المسئول المصري في تحويلها إلى إيراد سهل للدولة. كذلك لن أتحدث عن الفرصة الترويجية المجانية التي كان ليصنعها العمل السينمائي لمقاصدنا السياحية، من خلال اللقطات المتنوعة التي تحمل بصمة وروح مصر الجميلة إلى ملايين المشاهدين في مختلف دول العالم. وهنا ترتفع تكلفة الفرصة الضائعة مليارات من الدولارات فوق تلك التكلفة المباشرة المقدرة سابقاً.
مع كامل التقدير لأهمية التصاريح على اختلاف أنواعها، ماذا عساه يكون الضرر الذي يصيب مصر من تصوير عمل سينمائي كبير على أراضيها؟! بل دعنا نفترض أسوأ الفروض، دعنا نتصور أن العمل يزيّف شيئاً من الحقيقة عن البلد المضيف لمشاهد التصوير (على الرغم من أن أفلام مارفل كلها تقع في منطقة الخيال fiction). هذا التزييف يمكن أن يحدث وبصورة مضاعفة لو أن المشاهد التقطت في أي بلد آخر. كما أن الاستعداد الجيد لاستقبال هذا النوع من المنتجات في المستقبل، يمكن أن يجذب استثمارات ضخمة محلية وأجنبية في مجال بناء وتجهيز استوديوهات ومناطق التصوير المفتوحة، التي يفضّل أن يتم اختيار مواقعها بعناية، لتحاشي تعمّد بعض صانعي الأفلام المبالغة في تصوير المشاهد القبيحة والسلبية.
لا ننسى أن الرسالة التي يحملها فتح الأفق المصري لاستقبال صناعة الأفلام عالمياً، أسوة بما تقوم به المملكة المغربية منذ عقود، ينقل صورة منفتحة عن المجتمع المصري الذي يقبل الاختلاف والتعدد، وسرعان ما تفرز الأعمال الكثيرة المتواترة صورة حقيقية عن سماحة الشعب المصري ومرونة أجهزة الدولة في التعامل مع الفن السابع، الذي بإمكانه أن يتصدى بقوة للظلاميين في معركة التنوير ضد الفكر الإرهابي لجماعات التطرف المتأسلمة.
استعنت منذ سنوات بقنوات إعلامية متعددة، أبرزها المقالات المنشورة واللقاءات الفضائية المتلفزة التي حللت ضيفاً بها، للمناداة بضرورة تحوّل مصر إلى مركز ثقافي سينمائي عالمي، وأن تمنح الدولة استوديوهات أمريكية وأوروبية حقوق انتفاع طويلة في أماكن حيوية لبناء مراكز لصناعة الأفلام. حتى وإن كان هذا الانتفاع بسعر رمزي أو بدون مقابل على الإطلاق، فيكفي الدعاية التي تحملها تلك الأفلام، والقيمة المضافة التي سوف تستفيد منها صناعة السينما في مصر من جوار هذه المؤسسات العملاقة. ناهيك عن تكاليف إنتاج الأعمال الفنية التي تدخل في صورة مشتريات من الأسواق المصرية، وإقامة في الفنادق، وطلب على رحلات الطيران...إلى غير ذلك من أوجه إنعاش الأسواق.
الفرصة مازالت سانحة لإنشاء هيئة مختصة بتحويل مصر إلى ذلك المركز العالمي أو حتى الإقليمي، على أن تمنح من الصلاحيات ما يسمح لها بإصدار الموافقات على إقامة مراكز واستوديوهات التصوير، بالإضافة إلى سائر الصناعات المغذية لصناعة السينما في ثوبها الجديد، الذي لم يعد قاصراً على السيناريو الجيد والقدرات التمثيلية العالية. بل تتعدد المتطلبات إلى ميزانيات ضخمة للبحث والتطوير، وتقنيات عالية في صناعة الخدع السينمائية، وتطوير معدات وآلات التصوير والإضاءة، ومهارات المكياج...وكأن الفيلم الواحد بل وربما المشهد الواحد بمثابة شركة صغيرة يتم إقامتها لغرض خاص ثم تتوقف، وربما أعيد استخدامها مستقبلاً في أعمال مشابهة.
الهيئة المذكورة يجب أن تخرج من ربقة الروتين الحكومي، وأن يتصدر مراكز اتخاذ القرار بها رجال اقتصاد وفنانون اختبروا العمل السينمائي في الدول ذات الثقل في هذا المجال. وبالتأكيد يجب أن يلقى أي كيان بهذا الحجم عناية خاصة من السيد رئيس الجمهورية بصفته راع لنهضة ثقافية في البلاد.
د/مدحت نافع
مستشار وزير التموين والتجارة الداخلية
الرئيس السابق للشركة القابضة للصناعات المعدنية